روى ابن سعد في الطبقات الكبرى أن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- كتب إلى الخوارج ينكر خروجهم، ويقول لهم: "أنتم قليل أذلة".
فردُّوا عليه وقالوا: أما قولك: إنا قليل أذلة، فإن الله تعالى يقول لأصحاب نبيه: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأََرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 26]، فردوا عليه بذلك.
فوجَّه إليهم عمر بن عبد العزيز فقيهًا اسمه: عون بن عبد الله، وهو أخو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة (رضي الله عنهم جميعًا)، فقال لهم عون بن عبد الله: إنكم كنتم تطلبون حاكمًا في مثل عدالة عمر بن الخطاب t، فلمَّا جاءكم هذا الحاكم كنتم أنتم أول من نفر عنه وحاربه.
قالوا: صدقت، ولكنه لم يتبرأ ممن قبله ولم يلعنهم، فلم يلعن علي بن أبي طالب، ولا معاوية، ولا بني أمية؛ لذا فنحن نحاربه (وهذا هو مذهب الخوارج).
فقال لهم: كم مرة في اليوم تلعنون فيها هامان؟ قالوا: ما لعنّاه قط!
قال: أيسعكم أن تتركوا لعن وزير فرعون الطاغية، والمنفذ لأوامره، والذي بَنَى صرحه بأمره، ولا يسعكم أن تتركوا لعن أهل قِبْلتكم، إنْ كانوا أخطئوا في شيء، أو عملوا بغير الحق؟!
فسكتوا، ورجع منهم طائفة كبيرة؛ فَسُرَّ بذلك عمر بن عبد العزيز t، وقال لهذا الرجل: لماذا لم تحتجّ عليهم بعدم لعن فرعون؟
قال: لو قلت لهم: لماذا لا تلعنون فرعون؟ ربما قالوا: إننا نلعنه، أما هامان فقَلَّ من يلعنه على ألسنة الناس؛ فلذلك اخترته.
إن الحوار لدى الإنسان -في نظر الإسلام- صفة متلازمة معه تلازم العقل به؛ ولهذا فقد حدد الإسلام المنطلق أو الهدف الحقيقي الصادق الذي ينطلق منه المسلم في حواره مع الآخرين.
وهو ضرورة البحث عن الحق ولزوم اتباعه، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ} [يونس: 32]، {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [القصص: 49].
ومن هنا كان الحوار من أهم الأسلحة التي يلجأ إليها السياسيون لحل مشكلة ما بين دولة وأخرى، أو بين حزب وآخر، أو بين جماعة وجماعة أخرى.
وكلما كان الحوار حقيقيًّا يبغي فيه كل طرف الوصول إلى الحق وإلى نقاط مشتركة تضمن التعايش مع الآخر.
وكلما كان قائمًا على الغاية الشريفة، والمقصد النبيل، والاستعداد للاعتراف بالخطأ، والرجوع للحق والصواب، والرغبة في التغيير إلى الأفضل - كان ناجحًا وفاعلًا، وجاء بثمرات ومكاسب عديدة لكل طرف.
أما إذا كان الحوار من أجل الترف الفكري، أو إحراج الآخر، أو تسجيل موقف ما، أو أن يكون قائمًا في جو من البطش والقمع وغياب الحرية السياسية ومصادرة الأفكار والآراء.
أو أن يكون قائمًا على الخداع وامتصاص الغضب الشعبي، أو أن يحمل فيه أحد الأطراف البندقية بينما يحمل الطرف الآخر الكلمة والحجة المنطقية - فهذا أشبه بحوار الطرشان.
وهو دليل على الاستبداد بالرأي، وإقصاء الآخر، ومصادرة حرية الفكر والثقافة؛ مما يعني أن مستقبلنا ومستقبل الأجيال القادمة سيكون مضطربًا.
وأننا سنظل نتخبط في ظلمات الجهل والتخلف؛ بسبب الكبر الموروث، والواقع المريض الذي يزداد ضعفًا على ضعف يومًا بعد يوم.
الكاتب: د. علي الحمادي
المصدر: موقع جريدة المدينة